يشهد قطاع النفط والغاز في العالم تحولًا كبيرًا تقوده التكنولوجيا الحديثة والبيانات، إذ لم يعد التحول الرقمي مجرد تحديث في الأنظمة، بل أصبح ثورة شاملة تعيد صياغة طريقة عمل صناعة الطاقة بالكامل. في زمن أصبحت فيه البيانات المورد الأهم، تتجه الصناعة إلى نموذج أكثر كفاءة وذكاء واستدامة يقوم على الدمج الكامل بين التكنولوجيا التشغيلية وأنظمة المعلومات، لربط جميع عناصر المنظومة من الحقول والمنصات والمصافي إلى شبكات النقل والتحليل الاقتصادي ضمن نظام موحد مترابط.
تشير تقارير الطاقة الدولية إلى أن الرقمنة أصبحت من أهم عوامل تطوير الصناعة النفطية والغازية، فهي تتيح مراقبة العمليات وتحليل كميات ضخمة من البيانات بشكل مستمر مما يمكّن الشركات من اتخاذ قرارات دقيقة وسريعة. ويُعد التحليل التنبئي من أبرز أدوات هذا التحول، إذ يتم جمع المعلومات من أجهزة المراقبة وأجهزة الاستشعار داخل المنشآت ثم تحليلها لاكتشاف مؤشرات التآكل أو الضغط أو ارتفاع الحرارة قبل أن تتسبب في أي عطل. وقد غيّر هذا النهج أسلوب الصيانة من الاستجابة بعد وقوع المشكلة إلى الوقاية المسبقة، مما خفّض التكاليف ورفع مستويات السلامة والإنتاجية في آن واحد.
ومع توسع الاعتماد على الأنظمة الرقمية، يبرز الأمن السيبراني كأحد أهم التحديات التي تواجه الصناعة، فترابط الأنظمة التشغيلية يجعلها أكثر عرضة للاختراقات الرقمية، الأمر الذي دفع شركات الطاقة الكبرى إلى اعتماد خطط شاملة للحماية، تشمل المراقبة المستمرة، واستخدام أنظمة التشفير المتقدمة، وتدريب الكوادر على الاستجابة السريعة لأي تهديد محتمل. وقد أصبح الأمن الرقمي اليوم ركيزة أساسية في ضمان استقرار الإنتاج وحماية البنية التحتية.
كما ساهم التحول الرقمي في دعم الاستدامة البيئية من خلال حلول تقنية تتيح مراقبة الانبعاثات بشكل لحظي وإجراء تعديلات فورية للحد منها. وتُستخدم الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة لمراقبة الحقول والمصافي بدقة عالية دون الحاجة إلى تدخل مباشر، مما يعزز الشفافية ويقلل المخاطر البيئية. هذه التطورات تعكس التوجه العالمي نحو طاقة أكثر نظافة ومسؤولية.
ومن بين الابتكارات الحديثة التي غيرت شكل الصناعة تقنية السجل الرقمي التي توثق مراحل الإنتاج والنقل والمعالجة في سجل رقمي آمن لا يمكن تغييره، مما يتيح تتبع المنتجات من المصدر إلى المستهلك ويحد من الغش التجاري ويعزز الثقة في القطاع. كما برزت تقنية التوأم الرقمي التي تسمح بإنشاء نموذج افتراضي مطابق للمنشآت الحقيقية مثل المصافي أو المنصات، بحيث يمكن محاكاة الأداء في ظروف مختلفة قبل تنفيذ القرارات على أرض الواقع، وهو ما يقلل من المخاطر ويختصر الوقت ويعزز الابتكار.
ورغم التقدم الهائل في التكنولوجيا تبقى الكوادر البشرية هي العنصر الأهم في قيادة هذا التحول، إذ يظل الإنسان هو من يبتكر ويفسر ويتخذ القرار. لذلك تتجه الشركات إلى تدريب العاملين وتأهيلهم رقميًا لتمكينهم من التعامل مع الأنظمة الذكية وفهم البيانات وتطبيق مفاهيم الإدارة الرقمية في بيئة عمل متطورة. كما تزداد أهمية ما يعرف بأخلاقيات البيانات التي تهدف إلى ضمان الاستخدام المسؤول للتقنيات الحديثة وحماية الخصوصية ومنع إساءة استغلال المعلومات.
لقد تجاوز التحول الرقمي كونه مجرد وسيلة لتحسين الكفاءة التشغيلية ليصبح محورًا أساسيًا في بناء مستقبل الطاقة العالمي، فهو يربط العمليات ويقلل الهدر ويزيد الشفافية ويعزز التعاون بين الدول من خلال المنصات الرقمية المشتركة التي تتيح تبادل الخبرات والبيانات وتطوير مشاريع الطاقة عبر الحدود. ومع تسارع هذا التوجه تتجه صناعة النفط والغاز إلى مرحلة جديدة تصبح فيها الرقمنة العمود الفقري لمنظومة الطاقة المتكاملة التي تجمع بين الذكاء التقني والرؤية الإنسانية. فالغرض من هذا التحول ليس الأتمتة لمجرد الأتمتة، بل بناء منظومة طاقية واعية تجعل التكنولوجيا في خدمة الإنسان والبيئة معًا.